وجد انطون رحمه في دراسة حول وسائل الإعلام وأثرها على القيمة التربوية في المجتمع المعاصر، أن معظم قيم الشباب أقرب إلى القيم المعروضة في التلفزيون. ففي مقارنة بين القيم التي يحملها الأطفال والشباب والتي تظهر في سلوكهم اليومي واتجاهاتهم، وبين القيمة التي تنطوي عليها الرسائل التلفزيونية وكذلك القيمة التي تنطوي عليها الكتب المدرسية أو التي تسعى إليها التوجهات الأسرية، فإننا نجد أن معظم قيم الشباب والأطفال أقرب إلى القيمة التي تتضمنها الرسائل التلفزيونية ومن أمثلة ذلك اتجاهاتهم نحو الحب والجنس والعنف ومخالفة الأعراف التقليدية.
وتتفق هذه النتيجة مع نتائج الكثير من الدراسات التي وجدت أن القيم التقليدية التي تقوم الأسرة على إيجادها لدى الطفل آخذة في الضمور مقابل القيم المستمدة من الأفلام والمسلسلات الأمريكية.
ويتنامى هذا الدور الذي تلعبه الدراما مع تنامي الدور الذي يحتله التلفزيون داخل الأسرة وفي عملية التربية والتنشئة الاجتماعية فقبل اقتحام التلفزيون للبيوت كانت قاعدة التربية ثلاثية الزوايا البيت والمدرسة ودور العبادة إلا أنه مع دخول التلفزيون إلى المنازل احتل هذا الجهاز الرسمي الأكثر أهمية والأشد فعالية والأعمق أثراً والأوسع انتشاراً والأسهل تناول، إحتل الإرشاد والتوجيه مرتبة متقدمة.
لم يعد التلفزيون أداة من أدوات التسلية فقط بل أصبح من أهم العوامل التي تؤثر على تنشئة الطفل اجتماعياً في مختلف مراحل تطوره، فمشاهدة التلفزيون لا تتطلب معرفة القراءة والكتابة وفي كثير من الأحيان يستطيع الطفل مشاهدة التلفزيون قبل أن يستطيع الكلام، هذا إضافة إلى الوقت الذي يقضيه الطفل في مشاهدة التلفزيون والذي يفوق في كثير من الأحيان الوقت المخصص للقراءة أو اللعب، وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول بأن التلفزيون هو الوالد الثالث فهو يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية بالنسبة للطفل وذلك بعد الأم والأب.
ولعل الخطورة الأكبر في الأفلام والمسلسلات الأجنبية تكمن في أنها مصنوعة في بلدان مختلفة في تركيبتها الاجتماعية والثقافية عن التركيبة الاجتماعية والثقافية لبلداننا العربية والمسلمة وكذلك تكمن الخطورة في المضمون الذي تركز عليه هذه الأفلام والمسلسلات وبالتحديد الأمريكية منها، وقد وجد أحد الباحثين في هذا الشأن أن هناك أبعاداً معينة تركز عليها هذه الدراما أهمها:
- تروج هذه المسلسلات لجوانب الانحلال الخلقي.
- تركز هذه المسلسلات على العنف والجريمة.
- تعكس ضعف الروابط الأسرية.
- تعكس ضعف الروابط الاجتماعية بين الناس.
- يلاحظ في هذه المسلسلات ظهور السيارات الفارهة والمنازل الفخمة ومختلف أشكال الترف.
هذا بينما وجد باحث آخر أن المئة ساعة التي عرضت فيها مضامين مخصصة للطفل قد تضمنت 12 جريمة قتل، 16 معركة بالمسدسات، 21 شخصاً يصابون بالرصاص أو الضرب، 16 معركة بالمسدسات، 21 عملاً عنيفاً، 37 منظر صراع وتضارب بالأيدي أو بأدوات مختلفة، محاولات للخنق وصراع تحت المياه وتقييد لليدين، 45 محاولة انتحار، 4 حوادث سقوط من مرتفعات عالية، حادثتين لسيارتين تسقطان من قمة جبل محاولتان لدهس أشخاص بالسيارة عمداً، وصوراً مختلفة لأعمال عنيفة منها صراع في طائرة، وقاتل مأجور يتعقب ضحيته، وحادثة سرقة ونشل وامرأة تسقط من قطار ومنظر إعدام بالمقصلة.
وقد زادت نسبة العنف المقدمة في برامج الأطفال عاماً بعد عام حتى وصلت هذه النسبة إلى 99.9% في برامج الأطفال الأمريكية وفقاً لإحصاءات عام 1993.
وتنبهت معظم دول العالم إلى أن أكثر البرامج المثيرة للعنف هي البرامج المستوردة من الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي دراسة قام بها (هاوكنز) و(بنجري) في أستراليا على 1085 طالباً أسترالياً وجد أن هناك علاقة ارتباطية بين التعرض للمواد التلفزيونية الأمريكية واعتقاد هؤلاء الطلبة بوضاعة العالم وخطورة الحياة في استراليا.
وفي دراسة لـ (هدسون) و(نيديل) في السويد وهولندا لـ 607 من المسجونين في هولندا و1000 طالب في السويد، ظهرت علاقة قوية بين مشاهدة هؤلاء الشباب للبرامج الأمريكية وتكوين معتقدات عن العنف والتطلعات المهنية.
بينما أجريت دراسة في الفلبين والتي تستورد 60% من برامجها من الولايات المتحدة على عينة حجمها 225 طالب في السنة النهائية بالمدارس الثانوية ووجد أن هناك علاقة بين التعرض لهذه البرامج واعتناق الأفكار الأمريكية وزيادة الرغبة في زيارة الولايات المتحدة الأمريكية.
أما الباحثان (كان ومورجان) في كوريا الجنوبية فقد وجدا أن هناك علاقة قوية بين التعرض لهذه المواد وشيوع الأفكار الغربية لدى الإناث، حيث وجد أن الإناث الأكثر مشاهدة للدراما الأمريكية لا يؤمن بالأفكار التقليدية ويرتدين الجينز ويسمعن موسيقى الروك، وعلى العكس ارتبطت المشاهدة الكثيفة للمواد الأمريكية بين الذكور الكوريين بزيادة العداء نحو الولايات المتحدة الأمريكية وزيادة التمسك بالثقافة الكورية.
بينما توصلت فنزويلا على أن صورة البطل لدى الشباب الفنزويلي تكون في أغلب الأحوال واحدة، فالبطل هو أمريكي وغني وأنيق وأبيض وهو يجول العالم ناشراً للسلام والعدالة، ووجد شيلر إلى أن النموذج الأمريكي أصبح مصدر المعرفة الذي يسعى المثقفون من أبناء الدول النامية إلى تقليده وتبني أفكاره ورؤاه حتى قال عبد القادر طاش في كتابه حول التلفزيون الإسلامي أن للتلفزيون الأمريكي قدرة كبيرة على استهواء المشاهدين وتكريس الأفكار المقدمة لتصبح مع الإلحاح عليها سلوكاً للمشاهدين.
وإذا كانت الكثير من دول العالم تتخوف من الدراما الأمريكية وهي متشابهة إلى حد كبير في تركيبتها الثقافية مع هذه الدول كأستراليا وفرنسا وإنكلترا وفنزويلا... فالمشكلة تكون أكبر مع دول كدولنا العربية والإسلامية في اختلافها مع الثقافة الغربية. وكانت الأفلام والمسلسلات الأمريكية من أهم المواد التلفزيونية التي يحرص الشباب على متابعتها مع رغبة كبيرة في مشاهدة الدراما البوليسية وأفلام العنف والجريمة.
وفي دراسة لمعرفة تأثير هذه الدراما الأمريكية على الشباب اللبناني وجد أن هناك تأثيراً كبيراً على إدراك الشباب للعنف والجريمة والرغبة في الهجرة والإحساس بالاغتراب.
فقد عبر 26% من أفراد العينة المدروسة عليها رغبتهم في الهجرة إلى أي بلد آخر غير لبنان ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية ووجد 29% أن الهجرة من لبنان هي أمر حتمي، مقابل 26.5% لم يجيبوا عن السؤال وكانوا محايدين، ولعل السبب الأساسي في هذه النتائج يعود إلى نسبة الأفلام والمسلسلات المستوردة من الولايات المتحدة الأمريكية، وتأتي الأفلام والمسلسلات البوليسية في مقدمة أنواع الدراما المستوردة.
أما في مصر فقد توصلت إحدى الدراسات التي تناولت العلاقة بين التعرض للمواد التلفزيونية الأجنبية والاغتراب الثقافي لدى الشباب الجامعي المصري إلى أن كثيفي المشاهدة من الطلاب لديهم مستوى اغتراب ثقافي أكبر من قليلي المشاهدة.
ومع تزايد خطورة هذا الإعلام الأمريكي الموجه إلى العالم وتزايد هجمات هذا الإعلام على الحضارات العالمية وخاصة على المجتمع الإسلامي، ظهرت الكثير من الندوات والمؤتمرات الإسلامية في مجال الإعلام الإسلامي في محاولات كثيرة للوقوف أمام الإعلام الأمريكي وهجومه على المسلمين والثقافة الإسلامية، وظهرت الكثير من الدعوات لإنتاج مواد وبرامج خاصة للأطفال ذات بعد إسلامي، والاهتمام بالفنون الدرامية التي تخدم مصالح الأمة وتبرز محاسن الإعلام ومقاصد الشريعة كأسلوب تثقيفي وتربوي مقبول ومعالجة هذا كله من منظور إسلامي هادف وملتزم.
الدكتورة بارعة شقير (مدرس في قسم الاعلام جامعة دمشق)